في هذه الأيام الطيبة يتذاكر الناس في مشارق الأرض ومغاربها ذكرى رحلة الإسراء، التي سمى الله جل جلاله باسمها سورة في كتابه العزيز، فحري بنا أن نقف أمام بعض الدروس والعبر في هذه الحادثة العظيمة، لتكون بمثابة نبراس يستضيء به المؤمن في حياته، وسلوى لكل مُبتَلٍ نزلت به ضائقة، أو أصابه هم أو مظلمة، فيتذكر قول نبي الرحمة: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا».
حول ذكرى الإسراء والمعراج يقول فضيلة الشيخ محمد حمزة الفلامرزي، الداعية والمحاضر، إن رحلة الإسراء هي حدث مفصلي من أحداث النبوة، وقعت في السنة العاشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، في العهد المكي، قبلها كانت هناك إرهاصات اقتضتها حكمة الله عز وجل لتهييء النبي لهذه التجربة العظيمة، كان النبي قد حوصر في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات، كتبت فيها قريش بنود المقاطعة الآثمة التي علقت على أستار الكعبة، كانت مقاطعة شاملة من جميع الأوجه؛ مقاطعة اجتماعية وسياسية واقتصادية، حوصر فيها النبي عليه الصلاة والسلام وأهله وأصحابه، فصبروا، وهاجر من هاجر من أصحابه إلى الحبشة وقتئذ، ولم تكد تمر بضعة أشهر حتى مر النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أقسى وأشد؛ فيما سمي في السيرة بعام الحزن، فقد فيه رسول الله النصير، وفقد فيه الظهير، فقد السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها، وهي خير من ساند ووقف مع النبي في بدايات الدعوة، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الوفاء لها، كذلك فقد عمه أبا طالب، الذي كان له نعم الولي ونعم العضد، لما كان له من مكانة ووجاهة في قريش، مما وفر حماية نسبية للنبي ومنع عنه أذى قريش.
وهكذا توالت سنوات من الحصار والابتلاءات والأحزان، جعلت مكانة النبي على رأس أولي العزم من الرسل، وضربت مثلا للعالمين في الصبر والثبات عند الشدائد، وضربت كذلك مثلا لكل داعية إلى سبيل لله أن يكون صابرا، ثابتا، ماضيا على طريق الحق لا يحيد.
ثم من بعد طول مشقة، اقتضت الحكمة الإلهية أن يُسر عن قلب النبي بعد عام الحزن، وأن تزول عن قلبه تلك المتاعب والمصائب، فجاءت رحلة الإسراء، وبدأت قصة السمو وقصة الارتباط بالله عز وجل، واليقين في موعود الله، والتصديق الكامل لآيات الله الكبرى حين كشف رب العزة له جانبا من الغيب: {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، لقد كشف الله جل وعلا في هذه الحادثة عن عظيم مقام ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط أمام الملائكة، بل أمام أنبيائه أجمعين، هذا فضلا عن أن هذه الرحلة شهدت تشريع الصلاة، لتكون الصلة الأكبر بين الله جل وعلا وبين عباده، ثم ما تلا ذلك من رؤية النبي لما يقع من أهوال يوم القيامة، سواء ما كان على سبيل الثواب والنعيم، أو ما كان على سبيل العقوبة والنكال والعذاب والعياذ بالله، وفي هذا إشارة وتذكير للأمة بركن عظيم من أركان الإيمان؛ وهو الإيمان بالآخرة، إيمان هو في تأثيره يعتبر الوقود الذي يبعث في المسلم طاقة الاستمرار في العمل، لحث النفس على زيادة الطاعات، اتقاءا ليوم يلقون الله، ليس لسوء ظن بالله، وإنما من شدة الخوف من التقصير، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
ثم بعد أن انتهت هذه الرحلة، وحصل للنبي من ثمارها ما حصل، وعاد النبي إلى مكة، وكذبه مشركو قريش في كل ما رواه، حينها وقف الصديق أبو بكر موقفا نال فيه وسام الصدق، وشرف الصحبة، فلقب من يومها بلقب «الصديق» رضي الله عنه وأرضاه.
هذه محطات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله ورسوله أن يتجاهلها أو يمر على ذكراها دون تدبر، ودون اعتبار، فلئن امتحن الله جل وعلا بها الناس في ذلك الوقت، وانقسموا ما بين مؤمن ومكذب، فنحن أيضا نمر بمثل هذه الأحداث، ونمتحن مثلما امتُحِن بها من سبقوا، ليرى من يصدق هذا الخبر الإلهي الذي غدا آية متلوة، تعبدنا الله جل وعلى بتلاوتها إلى يوم القيامة؛ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].